عزفت لهم لحنا على عودها

عزفت لهم لحنا على عودها يجعل الحجارة الصلبة ترقص...

من أحد أقدم المصادر التاريخية عن عزف العود “كتاب الأغاني” للأصفهاني، “المقتبس” لابن حيان القرطبي، قصص من “ألف ليلة وليلة” في بغداد القرون الوسطى -نعرف أن النساء كن لزمن طويل عازفات عود بارعات. نعرف أيضا من مصادر من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أنه كان مما يثير الإعجاب أن تكون النساء عازفات عود في المجالس الخاصة خلال نهايات الإمبراطورية العثمانية، وأن النساء اقتنين العود في المنزل لاحقا في ظل الجمهورية التركية. ولكن تغير شيء ما في أواسط القرن العشرين. بفضل جهود الشريف محي الدين حيدر، وما يسمى بالمدرسة العراقية وبشكل أساسي منير بشير، أخذ العود مكانا على المسرح كآلة عزف منفرد في المضمار العمومي. مؤثر آخر قوي كان المغني، المؤلف، عازف العود والممثل فريد الأطرش، مهاجر سوري إلى مصر صار نجما” في وسائل الإعلام. منذ ذلك الحين على الأقل، التخيل السائد في كثير من البلدان هو أن العود آلة رجالية.

“هجرات العود” يحرص علي عرض بعض القصص المخفية عن الأعواد، وفي هذا السياق نبدأ سلسلة تركز على النساء وتواريخ النساء. هذه الأولى تقدم مقابلة مع رحاب عازار، عازفة عود من حمص، تخرجت من المعهد العالي للموسيقا بدمشق عام ٢٠١٤.

rihab-with-orchestra

عملت رحاب بين ٢٠٠٦ و ٢٠١٥ كعازفة في التخت الشرقي النسائي السوري و كعازفة صولو في سورية، كانت تعلم الصولفيج في المعهد العالي للموسيقا و تعطي دروس خصوصية في العود، كما عملت في مشاريع موسيقية تعنى بالأطفال النازحين في دمشق. انتقلت رحاب إلى لندن في ٢٠١٥ من خلال منحة بريطانية لتدرس ماجستير في تدريس الموسيقا. التقينا في لندن في تشرين الأول ٢٠١٦ لنتحدث عن أعوادها و عزفها للعود. ريتشل بيكلز ويلسون طلبت منها التحدث عن بدايتها مع العود.

رحاب: عندما كنت طفلة كانت الموسيقا في كل أرجاء البيت-استماع، عزف وغناء. أمي كانت تغني مع فرقة حمص لإحياء التراث التي كان أبي يعزف الكمان فيها و (قاد الفرقة لفترة)، لمدة ما كانوا يتمرنون في بيتنا وكنت أقف إلى جانب الكورال وأغني معهم. أبي يعزف الكثير من الآلات لكن بشكل أساسي العود، أمي تعزف العود أيضا” وكلاهما يغني. أمي امتلكت عود من صنع علي خليفة أهداها إياه إخوتها وأخواتها.

rihab-with-father

أبي، سمير عازار، علمني قطع موسيقية وأغاني من الأرشيف العربي الكلاسيكي عندما كنت طفلة. كان شيئا” مميزا” أن يكون أبي معلمي الأول للعود. كان لذلك جوانب كثيرة حيث أنه كان صديقي المفضل. كان صبورا” جدا” وجعل من التعلم متعة كبيرة للغاية. لم أشعر أنني كنت مجبرة على التعلم أو أي شيء من هذا القبيل. شاركت في مسابقات الأطفال بين عمر ٧ سنوات و١٢ سنة وربحت الجائزة الأولى لعزف العود لخمس سنين.

rihab-child-performer

ريتشل: أخبريني عن آلاتك الموسيقية.

رحاب: بدأ أبي بصناعة الأعواد عام ١٩٩٠ وصنع لي عودا” صغيرا” جدا” عندما كنت في السابعة من عمري. كان للعود عصفور من قشر الشجر بجانب القمرة. تعلمت أول أغنية بأقل من أسبوع. أمي ذهبت الي مصر حينها مع فرقة كانت تغني فيها وعندما عادت كنت أعزف.

كنت أستمتع باالعزف كثيرا” حتى كنت أحتضن عودي مرارا”! كان شيئا “عاطفيا” للغاية بالنسبة لي كطفلة وكنت أسميه صديقي. قبل ذلك كنت قد عزفت على الميلوديكا والأورغ.

rihab-with-first-oud

 

ريتشل: كيف تعتقدين أن تجربتك كعازفة عود تشكلت كونك امرأة؟

رحاب: عندما تم قبولي كطالبة في المعهد العالي للموسيقا بدمشق عام ٢٠٠٦ قلقت أن ذلك ربما كان بسبب أني عازفة عود امرأة. لكن بعدها أدركت أنني كنت مخطئة جدا” في التفكير بذلك الشكل. وقتها عند امتحان القبول لم أكن أعرف أين أقع في العالم الاحترافي لعزف العود ولم أكن قد عزفت مع بيانو أبدا” (وكان ذلك جزءا من امتحان القبول). العزف مع التسجيلات والاستماع لموسيقيين آخرين لم يعطياني فكرة كافية عن قدراتي. لم أدرك أنني كنت جيدة بما يكفي. كنت فقط أعزف لنفسي قبلها. تم قبولي في ذلك العام لكنني قبلت أيضا” في كلية الصيدلة في حمص لذلك لم أبدأ إلا فيما بعد. 

كانت وقتها عازفة القانون في التخت الشرقي النسائي السوري ديمة موازيني في امتحان القبول وكانت الفرقة بحاجة إلى عازفة عود في ذلك الحين. انضممت لهم ذلك الصيف وكان التمرين والسفر طوال فترة دراستي. كان شيئا” متعبا للغاية لكن رائعا” أيضا. عزفنا في سورية وبلاد عربية أخرى مثل لبنان، الأردن، العراق، الجزائر، البحرين، الإمارات العربية المتحدة. أبعد بلد سافرنا إليه كان روسيا وكن قد سافرن مسبقا أكثر بكثير. كانت وعد بوحسون تعزف العود معهن من قبل. 

عندما بدأت أخيرا” بالدراسة في المعهد العالي للموسيقا عام ٢٠٠٩ كنت عازفة العود الامرأة الوحيدة. عندما أصبحت في السنة الثالثة تم قبول امرأة أخرى. بالتدريج أدركت مكاني كعازفة عود، جيدة مثل الرجال حولي ومتميزة في نواحي معينة. اكتشفت أني لدي صبر كبير للتمرين على ما يطلب منا أداؤه. الأستاذ الأول الذي كان هناك عندما بدأت كان أزربيجانيا”، عسكر علي أكبر. تركيزه كان على الموسيقا الأزربيجانية والكلاسيكية الغربية لذا كان هذا ما كنا نعزفه. كما تعرفين، الموسيقا الكلاسيكية الغربية بالتحديد تتطلب صبر ومثابرة في التمرين. عليك أن تركزي على التفاصيل وتعزفي طبقا للمكتوب بالضبط. ليس هناك الكثير ممن يحتملون انضباطا” كهذا لاسيما على آلة من ثقافة موسيقية مختلفة.

rihab-with-piano

كما تعرفين، الموسيقا الكلاسيكية الغربية بالتحديد تتطلب صبر ومثابرة في التمرين. عليك أن تركزي على التفاصيل وتعزفي طبقا للمكتوب بالضبط. ليس هناك الكثير ممن يحتملون انضباطا” كهذا لاسيما على آلة من ثقافة موسيقية مختلفة. تعرفين كيف أن معظم عازفي العود العرب يتعاملون مع آلتهم دون الكثير من الصبر او تحديد التفاصيل الموسيقية، كثير من التفاصيل تترك للحظة. كثير منهم يهملون درجة التحديد الدقيقة للمادة. حتى زملائي كانوا يتحدثون عن الاهتمام بهذه الناحية كنقطة قوة لدي. زملائي في الصف وأساتذتي لاحظوا ذلك. كنت أحصل على أعلى العلامات في صفي، دائما على ما أذكر. لكن بالمقابل، افتقدت إلى حس المغامرة في الموسيقا وهو الشيء الذي امتلكه معظمهم، بالإضافة إلى الثقة في اكتشاف الارتجال مثلهم.

ريتشل: عظيم أن أسمع أنك لم تختبري أية أفكار مسبقة عنك.

رحاب: حسنا، كان هناك بعض الأفكار المسبقة. كنت أشعر أن الشخص الذي لا يعرف كيف أعزف، مثلا لم يحضر امتحانا لي، يفترض أني لا أعزف جيدا كما الرجال.

بالنسبة لتدريس العود، أعتقد أن كوني امرأة سهل علي الدخول إلى عالم الأطفال. يتجاوب الأطفال أكثر لك كامرأة. خصوصا الصغار جدا. لكن كنت أشعر أنه كان أصعب علي فتح قناة تواصل مع الطلاب الأكبر سنا، على الأغلب بسبب أنني لم أكن واثقة” أنهم (كونهم جزء من المجتمع) يعتبرونني جيدة كفاية كمعلمة عود امرأة! تجاربي الأروع في التدريس كانت مع تلاميذ بين عمر ٨ سنوات و١٦ سنة ودروسنا كانت مريحة وممتعة جدا.

كامرأة تحمل عودا في الطريق كنت اسمع تعليقات سخيفة مثلا كم أبدو جميلة مع الآلة. شكل من التحرش اللفظي. كنت أتجاهل هذا لكنني شعرت دائما بالحرج، على سبيل المثال، خلال انتظار الباص عند سفري من وإلى دمشق. لم أكن مرتاحة مطلقا لأني كنت أعرف أنني “فرجة. منظر نادرو تقريبا فريد. هذا كان الجانب السيء من الموضوع. وضع هذا عبئا” علي عندما كنت أسافر من أجل التمارين. كنت أشعر أني كائن غريب محط أنظار الجميع وهذا لم يكن شعورا جيدا.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

ريتشل: العمل في مجال الموسيقا يعتمد كثيرا على الشكل الذي نبدو عليه. الكثير من الفنانين يريدون أن ينظر إليهم. كيف تشعرين تجاه ذلك؟

رحاب: لا أنوي أن أدفع بنفسي إلى السوق. يتطلب ذلك طاقة كبيرة أفضل أن أوفرها للموسيقا بذاتها. هنا في لندن، هناك توقع مني أن أعزف موسيقا عربية وأنني أمثل سورية. هذا هو الإطار الذي عرض علي حتى الآن. إلى جانب أنه منذ بدء الحرب، وكموسيقية سورية في الغربة ينظر إليك كإنسان من بلد مزقته الحرب، ليعرض في المناسبات او الامسيات، أو ليعطيهم مصداقية أكثر وهو شيء أكرهه بشدة.

ريتشل: أخبريني المزيد عن تفكيرك حول الارتجال وأساليب عزف العود المتعددة.

رحاب: لطالما تجنبت الارتجال لأنني أشعر كما لو أنه إظهار جانب أعتبره حميميا” من نفسي ويجعلني أشعر بالهشاشة وأني عرضة للأحكام (بالإضافة إلى أن هذا العالم سريع الوتيرة الذي نعيش فيه الآن يفقد القدرة على الاستماع لأنماط أداء كهذه). سبب آخر لتجنبي هو أنني غير مقتنعة بالارتجال الكلاسيكي -الذي هو متوقع (الارتجال لم يكن جزءا من دراستنا أبدا). من جانب آخر، الكثير من طرق الارتجال غير الكلاسيكية لا تقنعني حيث أنني ألاحظ ضعفا” في منطق التغييرات المقامية، السرد و/أو البناء.

 أشعر أن الموسيقا العربية تحتاج تعبئة، القطع الموسيقية تحتاج ارتجال ضمنها، كنوع من التوزيع. لكن ٥ دقائق من الارتجال المنفرد لا تزال شيئا لا أرتاح به كشخص. العود يشكل تحديا كبيرا”جدا للعزف المنفرد. لا أحد يقدر كم من الصعب عزفه منفردا. أنه آلة لها حدود، لا سيما بالنسبة لأذن هذا العصر نافذ الصبر الذي نعيش فيه. الصوت يضمحل بسرعة إلا إذا ملأت كل شيء بالعلامات الموسيقية. وحتى عندما تملئين كل شيء، يصبح الصوت زيادة عن اللزوم. الكثير من العازفين يفعلون ذلك. يبذلون جهدا” كبيرا. أستطيع أنا أيضا أن أفعل هذا، أن أعطي الكثير من الصوت. لكن هل سيعجبني ذلك؟ هل سأستمتع بالاستماع لعلامات موسيقية بهذه الكثافة؟ عادة لا.

ريتشل: لنعد إلى عودك هنا.

samir-azar-oud-label

رحاب: كان هذا عودي الخامس، صنعه أبي عام ٢٠١٠. أحب نقاء علاماته الموسيقية لكن أعوادا أخرى تعطيني صوتا رخيما أكثر.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

أحب الأعواد التي تعطي صوتا مستمرا أطول عندما تنزلق الأصابع على الزند.

azar-oud-pegbox

ريتشل: هل لازلت تشعرين برابطة حميمة مع عودك كما كنت تشعرين وأنت طفلة؟

رحاب: لست متأكدة أن العود يسحرني تماما كآلة. أحب الموسيقا بالطبع لكن مع عمر ١٧ سنة بدأت أشعر أني كنت لأفضل آلة تعطيني تواصلا حسيا أكبر معها (كنت قد عزفت على الكمان أيضا وأحببت الشعور التي أعطتني إياه، الصوت أقرب إلى أذني). آلات مثل الهارب، عائلة الكمان، الآلات النفخية، تجعلك تشعرين بالصوت أقرب إلى أذنيك، مما يضيف بعدا قويا لتجربة العزف. أنحني على العود عندما أعزف لأن الصوت يتجه للخارج بعيدا عني.

  شيء آخر ألاحظه هو أن العود في العالم العربي لا يعتبر ساحرا كآلات الأوركسترا الغربية كما أنه لا يعتبر آلة نسائية. هذا ربما قد أثر على علاقتي به سابقا. باختصار، “هو” صديقي القديم العنيد، العلاقة معه هي تحد دائم!

azar-oud-face-detail

الاقتباس المستخدم الذي يشكل عنوان هذا المنشور يخص عازفة عود تعرف باسم زبيدة في قصة “علي بن بكار وشمس النهار”، تعزف في الليالي ٢٥٦ و٢٥٧ من “الليالي العربية”.

راجع المجلد الأول من ترجمات بينغوان الكلاسيكية لمالكولم سي. ليونز وأورسولا ليونز (٢٠١٠).

ترجمة : رحاب عازار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *